[ 21 ]
الحدّ على السارق، فأشار عليه ابن داود أن يقطع يده من الرّسغ، وأقرّه على رأيه أكثر العلماء، بينما أشار بعضهم بقطع يد السارق من الساعد. هنا التفت المعتصم إلى الإمام يطلب رأيه، فأشار عليه بقطع أصابع اليد فقط، لأنّ قطع اليد من الرّسغ يزيل موضعاً من مواضع السجود السبعة، وهو راحة اليد.
أعجب المعتصم برأي الإمام وأخذ به، متجاهلاً آراء الفقهاء الآخرين، فعظم الأمر على ابن داود، فلأوّل مرّةٍ يهمل المعتصم فتواه ويأخذ بفتوى غيره، والإمام هو السّبب في ذلك، فصار يتحيّن الفرص للإيقاع به، واستطاع آخر الأمر أن يوغر عليه صدر المعتصم، ويوقظ عنده هاجس الخوف على الحكم، والخوف من اتّساع نفوذ العلويين، وذكّره بما كان يفعله أسلافه من العباسيّين بحقّ أهل بيت الرسول (ص). فصمّم المعتصم على الغدر بالإمام، وأقدم على دسّ السمّ له في الطعام، بالطريقة الجبانة الغادرة نفسها، ويقال إنّ أداته في فعلته النكراء تلك، كانت زوجة الإمام أمّ الفضل، نظراً لما تكنّه من حقدٍ على الإمام، لتفضيله أمّ الإمام الهادي عليها. وتوفّي عليه السلام
[ 23 ]
متأثّراً بالسمّ في اليوم السادس من ذي الحجة سنة 220 للهجرة، وهو في ريعان شبابه، ودفن في الكاظميّة إلي جوار جدّه الإمام الكاظم عليهما السلام.
الأثر الطيّب
كانت حياته عليه السلام صورةً عن حياة آبائه الأطهار، عاشها في أداء الرسالة وتأدية الأمانة، رغم المصاعب والشدائد التي كانت تحيط به، وقد اجتمع حوله الناس، وروى عنه الرواة عشرات الأحاديث في مختلف المواضيع. وأثرت عنه أقوال تعدّ من أبلغ الحكم والمواعظ.
قال له أحد أصحابه يوماً: يا مولاي، إنّي لأرّجو أن تكون القائم من آل بيت محمد، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، فقال عليه السلام:
ما منّا إلا قائم بأمر الله، وهادٍ إلى دين الله، ولكنّ القائم الذي يطهّر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، هو الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذلّ له كلّ صعب، يجتمع إليه من
[ 24 ]
أصحابه عدّة أهل بدر، ثلاثمئةٍ وثلاثة عشر رجلاً من أقاصي الأرض. وذلك قول الله: { أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً، إن الله على كلّ شيءٍ قدير }. فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص، أظهر الله أمره، وإذا كمل له العقد وهو عشره آلاف رجل، خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله، حتى يرضى الله.
ومن الأقوال المأثورة عنه قوله عليه السلام:
حسب المرء من كمال المروءة تركه ما لا يجمل به، ومن حيائه أن لا يلقى أحداً بما يكره . . ومن سخائه برّه بمن يجب حقّه عليه، وإخراجه حقّ الله من ماله، ومن إسلامه تركه ما لا يعنيه، وتجنّبه الجدال والمراء في دينه، ومن كرمه إيثاره على نفسه، ومن صبره قلّة شكواه، ومن إنصافه قبول الحقّ إذا بان له . . ومن شكره معرفة إحسان من أحسن إليه . . ومن سلامته قلّة حفظه لعيوب غيره، وعنايته بإصلاح عيوبه.
وقال عليه السلام: العامل بالظلم والمعين له والرّاضي به شركاء.
وقال (ع) أيضاً: من عمل بغير علمٍ كان ما يفسد أكثر مما يصلح، إيّاك ومصاحبة الشّرير، فإنّه كالسيف
[ 25 ]
المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره . . . عز المؤمن غناه عن الناس.
وقد أحاطت كلماته عليه السلام بجميع الجوانب التي تشدّ الإنسان إلى الخلق الكريم، والأدب الرفيع، والسلوك القويم، وكلّ ما يرفع من شأن الإنسان، ويوفّر له السعادة، والكرامة، في دنياه وآخرته.
لهذا ونحوه، وهب الأئمة من أهل البيت عليهم السلام حياتهم ووجودهم، وتحمّلوا في سبيل ذلك كلّ أنواع الظلم والجور والتّشريد، ورحلوا عن دنيا الناس بأجسادهم، وظلّوا فيها أحياء بسيرتهم ومبادئهم وتعاليمهم، التي تلهم الأجيال كلّ معاني الخير والنبل والفضيلة، في كلّ زمانٍ ومكانٍ.