[u]ولادة (سلم)[/u] :
قال : فلما دخلت آمنة في الشهر التاسع و بلغت العدة التي أرادها الله تعالى و ليس فيها أثر و لا وجع و كانت منفردة بدارها إذ سمعت ضجة و وجبة عظيمة ففزعت منها , و إذا قد نزل عليها طير أبيض و مسح بجناحه على بطنها , فزال عنها ما كانت تجده من الخوف .
فبينما هي كذلك , إذ دخل عليها نساء طوال يفوح منهن روائح المسك الأذفر و الند و العنبر و قد تقمصن بأطمار من العبقري الأحمر و بأيديهن أكواب من البلور الأبيض و قلن لها : اشربي من هذا ليزول عنك ما تجدين .
فشربت منه آمنة , ثم قالت لما شربته :
أضاء من وجهي نورا ساطعا ; فجعلت أقول من أين دخلن علي هؤلاء النسوة و كنت قد أغلقت الباب على نفسي و جعلت أنظر إليهن فلم أعرفهن , ثم قلن لي يا آمنة أبشري بسيد الأولين و الآخرين محمد :
صلى الإله و كل عبد صالح *** الطيبون على السراج الواضح
زين الأنام المجتبى علم الهدى *** الصادق البر التقي الناصح
المصطفى خير الأنام محمد *** الطاهر العلم النبي الراجح
صلى عليه الله ما هب الصبا *** و تجاوبت ورق الحمام النائحقالت آمنة : ثم قلن هذا محمد مصباح الأرضين ثم خرجن عني و إذا أنا بثوب من الديباج قد نشر ما بين السماء و الأرض و قائل يقول : خذوه و غيبوه عن أعين الناظرين فإنه رسول رب العالمين .
قالت آمنة : فأخذني الفزع و الجزع و أنا أنظر إلى خفقان أجنحة الملائكة و تسبيحها و تقديسها و أطيار مختلفة الألوان حمر المناقير .
قالت آمنة : فبينما أنا متعجبة من ذلك و مما رأيت منهم إذ وضعت بولدي محمد (
سلم) ساجدا على الأرض تلقاء الكعبة رافعا يديه إلى السماء كالمتضرع إلى ربه و سمعت من داخل البيت قائلا يقول :
كم آية ظهرت لنا في حكمه *** ما ليس يخفى في الأنام ظهورا
و رأته آمنة يسبح ساجدا *** وقت الولادة للسماء مشيرا
صل عليه الله ربي دائما *** ما دامت الدنيا و دام سروراو قيل في مدح الرسول تهنية لذوي العقول :
ولد الحبيب في ربيع الأول *** و الكون يرقص و الكواكب تنجلي
ذا مولود مبعوث لنا *** من عهد آدم في زمان الأول
و حكوا عروس جماله في حله *** ما كان فيها قبله أحد جلي
و تقول آمنة رأيت جماله *** كالبدر في تم يحل و ينجلي
و رأيت أملاك السماء تزفه *** و الطير يرقص و الهنا في منزلي
ناديت من هذا فقيل من العلا *** لا تسألي عن فخره لا تسألي
لا تحجبيه عن ملائكة السما *** بحياته بحياته لا تفعلي
هذا المشرف و المفضل و الذي *** فاق الأنام و صاحب القدر الجلي
هذا الذي وطئ البساط بنعله *** هذا الذي من حبه قلبه جلي
يا نوق إن جئت الخيام عشية *** حول الخيام فقد نصحتك فانزلي
تلك البشارة في ذاك الحمى *** بدرا يفوق على الأنام إذا جلي
و لقد أجاد الشاعر في مدح محمد المصطفى حيث يقول :
ولد الحبيب و خده متورد *** و النور في وجناته يتوقد
ولد الذي لولاه ما كان البقا *** كلا و لا ذكر الحمى و المعهد
جبريل نادى في بديعة حسنه *** هذا مليح الوجه هذا أحمد
هذا كحيل الطرف هذا المصطفى *** هذا جميل الوجه هذا السيد
هذا جليل القدر هذا المرتضى *** هذا حبيب الله ذاك محمد
هذا الذي خلعت عليه ملابس *** و نفائس و نظيرها لا يوجد
قالت ملائكة السماء بأسرها *** ولد الحبيب و مثله لا يولد
ولد الذي لولاه ما كان التقى *** كلا و لا كان الحقيقة يقصد
إن كان يوسف قد أفاق جماله *** و أقسمت ذا المولود منه أرشد
أو كان قد أعطى الكليم عبادة *** فمحمد منه أجل و أعبد
يا عاشقين تولعوا في عشقه *** هذا جميل الحسن هذا المفرد
يا مولد المختار كم لك من هنا *** و مدائح تعلو و ذكرك يوجد
يا ليت كل الدهر عندي ذكره *** يا ليت طول العمر عندي مولد
بشرى لآمنة برؤيا حسنه *** هذا هو الجاه العظيم الأزيد
وضعته مختونا و مكحولا كما *** قد جاء يذكر في الحديث و يسند
أعطي الخطاب من الإله تشرفا *** يا واحد الأكفاء أنت محمد
لولاك ما ذكر العقيق و لا الحمى *** و حياة وجهك يا بني الأوحد
أ ترى بنجد أسمع الحادي بنا *** يحدو بذكرك بالحديث و ينشد
و يقول يا عشاق هذا المصطفى *** و يشير للمختار هذا السيد
يا نازلين المنحنى في شرعكم *** إن المتيم بالفراق يهددقالت آمنة : فبينما أنا كذلك إذ سمعت من داخل البيت أصواتا مختلفة و إذا بسحابة بيضاء قد نزلت علي و على ولدي فغيبته عني و لم أره و سمعت قائلا يقول طوفوا بمحمد (
سلم) مشارق الأرض و مغاربها و برها و بحرها و سهلها و جبلها و أعرضوه على الجن و الإنس ليعرفوه و يعرفوا نعته و أمره و قيل فيه :
صلى الإله على النبي المصطفى *** خير الأنام أتى به التنزيل
و بفضله نطق الكتاب و نبأت *** بصفاته التوراة و الإنجيل
أسرى به المولى إلى أفق السما *** فوق البراق و عنده جبريلقال : و لما ولد رسول الله (
سلم) أعلنت الملائكة بالتسبيح
و التقديس و اهتز العرش طربا و خرجت الحور من قصورها و قيل لرضوان زين الجنة جنة الفردوس قالت آمنة و كان بين غيبته و رجوعه أسرع من طرفة عين و إذا به قد أدرج في ثوب أبيض من صوف و هو مكحل مختون مدهون و هو قابض على ثلاثة مفاتيح و رجل قائم عند رأسه و إذا بقائل يقول قد قبض محمد على مفاتيح النصر و النبوة و الكعبة و الدنيا و ما فيها فبينما أنا كذلك و إذا أنا بسحابة أخرى أعظم من الأولى فسمعت منها خفقان أجنحة الملائكة حتى نزلت علي و على ولدي و غيبته عني كالمرة الأولى و إذا أنا بقائل يقول طوفوا بمحمد على جميع النبيين و أعرضوه على سائر المرسلين و أعطوه صفوة آدم و رأفة نوح و حلم إبراهيم و لسان إسماعيل و حسن يوسف و صبر أيوب و صوت داود و زهد يحيى و كرم عيسى و شجاعة موسى و اغمسوه في أخلاق الأنبياء و قال الشاعر في هذا المعنى ; أفلح من يصلي على الرسول و آله :
يا قاصدا نحو الحطيم و زمزم *** بلغ سلامي للنبي الأكرم
و قل السلام عليك يا مولى الورى *** أنت الدليل إلى السبيل الأقوم
صلى عليك الله ما هب الصبا *** و ترنمت ورقا بصوت ترنمقالت آمنة : فرأيت ولدي قابضا على حريرة بيضاء مطوية طيا شديدا و الماء يخرج منها و قائلا يقول قد قبض محمد على الدنيا بأسرها و لم يبق شيء إلا و دخل في قبضته .
قالت آمنة :و سمعت قائلا يقول :
ألا فأكثروا التسبيح بعد صلاتكم *** للسيد المختار ذاك الأمجد
و من يك ذا بخل إذا عد ذكره *** فذاك عن الحق المبين مبتعدو روي عن النبي (
سلم) أنه قال : من صلى علي و على آلي لم يمت حتى يبشر بإيمانه و أبخلهم من ذكرت عنده و لم يصل علي و من عسر عليه أمر فليكثر من الصلاة علي فإنه يفرج الله عنه .
قالت آمنة : فبينما أنا كذلك و إذا بثلاثة نفر قد دخلوا علي و النور يسطع من وجوههم و بيد أحدهم إبريق من الفضة البيضاء و الآخر بيده طشت من الزبرجد الأخضر و بيد الثالث منديل من السندس الأخضر .
قالت آمنة : فوضع الطشت من يده و قال له يا حبيب الله اقبض أنى شئت .
قالت آمنة : فقبض ولدي على وسطها .
و سمعت قائلا يقول : قد قبض محمد (
سلم) على الكعبة و ما حولها , و رأيت النور
يشرق منه كأنه الشمس ثم حمله صاحب الطشت و صب الآخر عليه الماء سبع مرات , ثم مسح وجهه صاحب المنديل , و ختم ما بين كتفيه بذلك الخاتم , ثم لفه ما بين جناحيه ; فسألت من هذا ؟ فقيل هذا رضوان خازن الجنان .
ثم كلمه في أذنيه بكلام لم أفهمه , ثم قال له : أبشر يا حبيبي فإنك سيد الأولين و الآخرين و الشفيع فيهم يوم الدين فطوبى لمن اتبعك و الويل لمن حاد عنك ; و قيل في هذا المعنى :
فيا خير مولود تعظم فخره *** و أتى بأشرف ملة و كتاب
صلى عليك الله يا خير الورى *** ما هل في الآفاق قطر سحاب
يا خير مبعوث لآخر أمة و *** يا خير من يدعو لسبل صواب
قالت آمنة : ثم خرجوا عني و أنا متفكرة فيهم و لم أعلم كيف خرجوا و قد قيل في هذا المعنى شعرا :
صلوا على خير الأنام كرامة *** و جلالة يا معشر الإسلام
فهو النبي المصطفى علم الهدى *** يا خير من يدعو لسبل قوام
نطق الكتاب بفضله و جلاله *** و بذكره نشفى من الآلام
صل عليه الله ربي دائما *** ما لاح نجم تحت جنح ظلام
فهو السبيل لدار كل كرامة *** و هو الدليل بجنة و سلام
و هو الشفيع لمن أراد بدينه *** و لمن أتى لملة الإسلامقالت آمنة : و رأيت ثلاثة أعلام قد نصبت واحد بالمشرق و الثاني نحو المغرب و الثالث بأعلى الكعبة و النور مثل قوس السحاب من عنان السماء إلى وجه الأرض قد أنزلت فكشف الله عن بصري فرأيت ما كان هناك و تلك الأعلام من نور قائم مثل قوس السحاب ثم رأيت بعد ذلك سحابة قد نزلت عليه و غيبته عني ساعة طويلة و لم أره و أنا متعلقة القلب به و قد حيل بيني و بينه و أنا أظن أني نائمة و أمسح بيدي على عيني فبينما أنا كذلك و إذا أنا بولدي مكحل و مقمط في قماط يفوح منه رائحة المسك الأذفر .
قال عبد المطلب : و إني كنت في الساعة التي ولد فيها رسول الله (
سلم) و أنا أطوف بالكعبة و إذا بالأصنام قد تساقطت و تزلزلت و إذا بالصنم الكبير قد وقع على وجهه و سمعت قائلا يقول الآن آمنة قد ولدت بمحمد (
سلم) .
و قال عبد المطلب : فلما رأيت ما حل بالأصنام تلجلج لساني و تحير عقلي و رجف فؤادي حتى صرت لا أستطيع الكلام .
ثم خرجت مسرعا , و أتيت إلى منزل آمنة و إذا بالصفا و المروة يركضان بالنور فرحا و قد قيل فيه شعرا :
صلوا على خير العباد *** المصطفى كنز الرشاد
صلوا على خير العباد *** الكنز في يوم المعاد
من قد رقا سبع الشداد *** و نال في الدنيا المراد
يا آمنة حلوى الهنا *** صلوا على عالي السناد
محمد كل المنى و *** من سكن وسط الفؤادو قيل أيضا فيه شعرا ; صلوا على خير الورى :
صلوا عليه و سلموا تسليما *** حتى تنالوا جنة النعماء
هو سيد الكونين سيد هاشم *** ما في سيادته عليه من إخفاء
شرف المقام به و زمزم و الصفا *** و منى و بيت الله و البطحاء
من نور رب العرش كون نوره *** و الناس في خلق التراب سواء
و به توسل آدم من ذنبه *** و تشفعت بمقامه حواء
و به توسل نوح في طوفانه *** فأجيب حين طغى عليه الماء
و به دعا إدريس فارتفعت له *** عند المهيمن رتبة العلياء
و به الخليل نجا من النار *** التي قد أضرمت من أجله الأعداء
و به الذبيح نجا و حيي حياته *** لما أتاه من الإله نداء
و ببعثه التوراة تشهد بفضله *** بالمصطفى و لها عليه ثناء
إنجيل عيسى و الزبور بفضله *** شهدا ففي هذا الفخار علاء
الله أكبر ما أتم فخاره *** في بعض ذا فلتخبر العلماء
قد أنزل القرآن في أوصافه *** ما ذا تقول بمدحه الشعراء
صلى عليه الله في سبع العلا *** ما لاحت الأنوار و الظلماءقال عبد المطلب : فأتيت إلى آمنة و إذا أنا بغمامة بيضاء قد عمت المنزل فلما قربت من الباب عبقت برائحة المسك و العنبر فدخلت عليها فرأيتها جالسة و ليس عندها أثر النفاس .
فقلت لها : أين الولد الذي ولدتيه ؟
قالت : قد حيل بيني و بينه , و قد أتاني آت و قال لي يا آمنة لا تجزعي و لا تخافي فإنك لا ترينه إلا بعد ثلاثة أيام .
قال عبد المطلب : فجذبت عليها السيف و قلت لها أخرجي إلي ولدي في هذه الساعة و إلا علوتك بهذا السيف .
فقالت آمنة : شأنك , فإن ولدك بهذه الدار .
قال : فهممت بالدخول عليه و إذا أنا بشخص كأنه
النخلة السحوق و لم أر أهول منه منظرا فلما رآني برز إلي و سل سيفه و قال لا سبيل لك و لا لأحد حتى تنقضي زيارة الملائكة .
قال : فرجعت خائفا مرعوبا .
قال صاحب الحديث : بلغنا أن الساعة التي ولد فيها رسول الله (
سلم) طردت المردة و الشياطين و خرجوا هاربين فمنهم من أغمي عليه و منهم من مات .
و أما وشق و سطيح فإنهما هلكا في تلك الساعة .
و أما الزرقاء فإنها كانت في تلك الساعة جالسة مع خدمها و جواريها و إذا هي قد صرخت صرخة عظيمة و غشي عليها .
فلما أفاقت من غشوتها أنشأت تقول :
أما المحال فقد مضى لسبيله *** و مضت كهانة معشر الكهان
جاء البشير فكيف لي بهلاكه *** هيهات جاء الأمر بالإعلانقال : و لما تم له ثلاثة أيام دخل عليه جده عبد المطلب فلما نظر إليه , قال : الحمد لله الذي صدقنا وعده و أخرجك لنا حيث أوعدنا بقدومك فإذا لا أبالي بالموت ما أصابني بعد هذا اليوم ثم قبله و دفعه إلى أمه فجعل يهش و يضحك في وجهها كأنه ابن سنة .
فقال لها عبد المطلب : احفظي قرة عيني فإنه سيكون لولدك يا آمنة شأن
و أي شأن كما أخبرنا به الكهان في قديم الزمان .
قال : و أقبلت إليه الناس يهنئونه بما أعطاه الله تعالى و قال الشاعر في هذا المعنى :
سلام سلام سلام سلام *** سلام عليكم فردوا السلام
سلام على أهل هذا المقام *** ما جن ليل و ناح الحمام
سلام عليكم أتيناكموا *** نهنيكم اليوم بهذا الغلام
و نقرى و ندعو لكم جميعا *** و عيد مبارك عليكم تمام
فلا أوحش الله من شهرنا *** مضى و تقضى عليكم تمام
هنيئا مريئا بهذا الغلام *** و أبرك يوم و أسعد عام
تعيشون حتى تزورونه و تجلى عروسا كبدر التمام
فيا رب سلم لي هذا الغلام *** بحرمة محمد
و بلغه الله ما يشتهي *** على رغم أنف الأعادي اللئام
على بئر زمزم نصبنا الخيام *** و تحت الخيام رجال كرام
و فيهم بدوي مليح اللثام *** و اسمه محمد
فقومي نزوره يا آمنة *** فهذا نبي شفيع الأنام
هجرت الكرى مع لذيذ المنام *** فقلت سلام سلام سلام
و صلوا عليه تنالوا المنى *** فكل صلاة بعشرة تمامقال الراوي : و كان كلما دخلت على آمنة امرأة لتهنئها بمحمد عبقت منه بروائح المسك و الطيب فكان الرجل يقول لزوجته من أين لك هذه الرائحة فتقول هذا من طيب محمد (
سلم) .
قال : و أقبلت إليها القوابل ليقطعن سرته فوجدوه مقطوع السرة فقلن لها يا آمنة ما كفاك أنك وضعت به و لم تعلمين به أحدا حتى قطعت سرته بيدك .
فقالت آمنة : و الله ما رأيته إلا كما رأيتنه ; فتعجبن من ذلك .
قال : فلما مضت له سبعة أيام أولم عبد المطلب وليمة عظيمة و ذبح فيها الأغنام و نحر الإبل ; ثم أكل الناس منها ثلاثة أيام و ما فضل من ذلك الطعام رموه في البرية تأكله الوحوش و السباع و الطيور .
و الحمد لله رب العالمين